عبده منصور المحمودي
شاعر وناقد. أكاديمي في جامعة عدن
في روايته "عرس على صفيح ساخن"([1])، أضاء الكاتب أحمد قاسم العريقي الحربَ اليمنية من زاويةٍ خاصةٍ بتمايُز البُنى الاجتماعية في تعاطيها مع تداعيات الصراع الكارثية، من خلال موازناتٍ ضمنيّةٍ بين طرفي النوع الاجتماعي (الرجل/ المرأة). مع مركزِيَّةٍ حيويَّةٍ لشخصية المرأة، في سلسلةٍ من الأحداث المرتبطة بشخصياتِ تجمُّعٍ نسويٍّ، في صالة عُرسٍ، صادرت الحرب فرحته إثرَ اندلاعِ واحدةٍ من شراراتها الداخلية. وهي الشرارة التي استندت إليها سردية العمل؛ كون الكتابة الروائية شديدة الارتباط بالواقع الاجتماعي؛ بوصفها تشكيلًا جديدًا للحياة، تستلهم موضوعاتها من العلاقات الاجتماعية، ويمثل أبطالها أزمات محيطهم الذي يعيشون فيه، ويلعب الخيال دورًا كبيرًا في الإضفاء عليها تفرّدها عن الكتابة التاريخية([2]).
العنونة والحيز الروائي
حملت العتبة النصية الرئيسة في هذا العمل (العنوان)، الدلالةَ على مناسبةٍ اجتماعيةٍ صادفت ظروفًا قلقةً غيرَ مستقرة، كُثفت الإحالةُ عليها بتوصيفاتها التي اكتنزتْها الجملةُ التعبيرية "صفيح ساخن" ذات المحمولات الدلالية على متغيراتٍ محتدمة.
وقد كانت الأبعاد الدلالية- في هذه العتبة- بالغةَ الاستيعابِ لفكرةِ العمل، الماثلة في جناية أحداث الحرب على معطيات السعادة في اليمن، وتحويرها إلى صورة من صور المأساة الجاثمة. من خلال تسريد هذه الفكرة، في أحداثِ واحدةٍ من مناسبات الأعراس في مدينة صنعاء، حُوصر المدعوون إليها من الرجال والنساء، في حيِّزٍ مكانيٍّ انقسم على صالتين: (صالة النساء وصالة الرجال)؛ تداعيًا مع خصوصية الحيز الزمني، الذي لم يتجاوز بضعة أيّامٍ، بدأ اليوم الأول منها في الثامن والعشرين من نوفمبر 2017، ولم يحن المساءُ فيه إلّا وقد أُزهقت تلك الفرحةُ بمواجهةٍ مسلحة بين الحليفين الرئيسين، اللذين بهما تشكّل أحَدُ طرفي الحرب المندلعة عشيّة الخامس والعشرين من آذار/ مارس 2015م.
ديناميكية التداعي
عادةً ما تقوم الحرب في صيغتها الديناميكية "على مرتكزات ثلاثة، هي: العنصر البشري والقتال والسلاح، وهذه المرتكزات تعتمد على وجدان المقاتل، فعندما تنشب الحرب يصبح الإنسان في قلبها، وتصير هي أيضًا في قلبه؛ لأنها الواقع الذي يعيشه"([3]). وقد عمل الكاتب في روايته، على استكناه هذه العناصر في ديناميكية التعاطي الاجتماعي مع الحرب، من خلال سياقين رئيسين: الأول خاص بالشخصية الرجالية، والثاني متعلقٌ بالشخصية النسوية.
في السياق الأول، تجسّدت شخصية الرجل في العريس (مجيب المِقدام)، ثم فيما تضافر من ردود الفعل المختلفة داخل صالة الرجال، امتدادًا إلى خارجها في شخصيات الجنود المتقاتلين. وفي السياق الثاني، تجسدت شخصية المرأة في العروس (نهلة)، ثم في شخصيات المدعوات في صالة النساء، وفي أدوارٍ خاصةٍ اضطلعت بها: الشرطية (صباح)، والصحافية (نوال)، والشخصية المتنكرة في زي امرأة (إقبال ناصر التيس)، التي وظّفت تقمُّصها لشخصية المرأة، في إشباع سلبية النزعة الذكورية، الراغبة في انتهاكِ خصوصيةِ المجتمع النسوي، بشكلٍ متنافٍ مع الثقافة الاجتماعية السائدة.
تمثّلت أولى انعكاسات الحرب الطارئة، في حصار مَنْ في الصالتين، فالمدعوات فوجئنَ بسماعهن أصوات الاشتباكات خارج الصالة؛ إذ "زادت كثافة الطلقات، وأخذت النسوة اللائي يشاهدن ما يجري في الشارع يهتفن: "حرب، حرب!" سقطت امرأة كانت تقف على إحدى الكنبات، ووقعت على امرأتين، وراحت تشكو من ألم"([4]). ومثلهن فوجئ الرجال في صالتهم، ففي تلك اللحظة كان (مجيب المقدام) يستعد للذهاب إلى عروسه، "لم يكن يدري بما حبلت به المدينة. قام من مكانه واتجه إلى باب الخروج. سمع أصواتَ رصاصٍ قوية، غير تلك المألوفة في الأعراس. ظنها طلقات ضد طائرة مقاتلة تحلّق في سماء المدينة! أسرع خطاه وقام المدعوون فزعين قومة رجل واحد، تاركين ما بقي من قاتهم وسجائرهم وأغطية رؤوسهم"([5]).
توالت بعد ذلك تداعياتُ الحرب على مَنْ في الصالتين؛ فجسّدت الأحداثُ فيهما نموذجًا مُصغّرًا لما يجري خارجهما من صراعٍ فاعلٍ في تمزيقِ النسيج الاجتماعي؛ فقد انقسم الرجال في صالتهم على أطراف الحرب خارجها، واحتدّ الجدال فيما بينهم، وصولًا إلى إقدام أحدهم على قتل آخر ممن يختلفون معه.
وانقسمت النساء في صالتهن على مجموعات، كل مجموعةٍ تُوالي طرفًا من أطراف الصراع خارج حيّزهنّ المكاني، تجادلْنَ، تشاتَمْنَ، ظهرت عباراتُ التراشق المعهود بين السياسيين، تبادلن تُهَمَ التخوين والعمالة والتكفير([6])، تمثّلنَ الصراعَ الثقافي والمذهبي والديني، وظهرت في سياقه رؤى بعضهن فيما ينطوي عليه هذا الانقسام- المذهبي والديني- من محوريةٍ فاعلةٍ في تأجيج الصراع السياسي والعسكري. وبلغ الصراع ذروته حينما رمت إحداهن بحذائها امرأةً مختلفة معها، كانت مستميتة في الدفاع عن الطرف الذي تناصره، انكسرت أسنانها، فكانت اللثغة في كلامها صفةً جديدةً في آلية النطق لديها.
وعلى ما في صالة النساء من كثافةِ أحداثٍ وتفاصيل، إلّا أن الصراع فيها لم يصل إلى القتل الذي كان ذروة الصراع في صالة الرجال. وفي الاختلاف بين هاتين الذروتين يتجلّى نوعٌ من التجانس في كلٍّ منهما، مع نوعية الجنس الاجتماعي الذي ينتمي إليه أفرادها.
تداعياتٌ وأنساقٌ متقادمة
تعاطت الرواية في حيزها السردي مع مأساوية الحرب، في أنساق المحطات الرئيسة الثلاث، التي تمر بها الحياة البشرية. الأولى محطة (الولادة)؛ إذ كانت أصوات القذائف عاملًا في ولادة إحداهن في صالة النساء، في شهرها السابع([7])، فصادرت الحرب على الجنين شهرين من حياته في بطن أمه. والمحطة الثانية محطة (الزواج)، وقد كانت بؤرة الأحداث السردية- في هذا العمل- هي الرغبة في عبور هذه المحطة، لكن الحرب أفرغتها من ماهيتها، وأحلّت محلَّها ماهية الصراع وامتداداته في مناسباتٍ مماثلة، سبَق وأن قُصفت فيها صالاتُ أعراس بغارات جوية([8]). ثم تأتي المحطة الأخيرة (الموت)، متمثِّلةً في صعودِ روحِ إحدى المدعوات في صالة النساء إلى السماء إثْرَ نوبةِ رعبٍ وخوف قاتلة([9])، وأجهزت ظروف الصالة ذاتها على حياة الجنين بعد ساعاتٍ من ولادته فيها. كما تخطّف الصراع في صالة الرجال حياةَ واحدٍ منهم([10]).
قدّم السياق السردي كارثةَ الجوع التي ألقتْها الحربُ على مجتمع الصالتين، وسُبل المواجهة التي نجحت آلة الحرب في اجتراحها، بما أحدثتْه من كوىً في جدران السور الخارجي لكلتا الصالتين وجدران المباني القريبة منهما؛ ومن تلك الكوى نفذ بعض الرجال إلى محلات مواد غذائيةٍ محاذية لصالتهم، فعادوا بما يفي بحاجتهم. ومثلهم تسللت بعض النساء إلى شققٍ سكنية غادرها سكانها تحت وطأة الحرب، فوجدن فيها ما يفي بإطفاء لهيب الجوع، بعد أن اتحدْنَ في تلاشي بريق الجميلات، وفقدان هالة المستوى الاجتماعي والاقتصادي العالي، وأولوية غريزة البقاء عند كل واحدة منهن، "الشيء الوحيد الذي كان يوحد الجميع هو اهتزاز النوافذ! يدب الرعب ويلعنّ الحرب"([11]).
كما ظهرت في سردية العمل آثارُ الحرب المباشرة في توسيع الفجوة الاجتماعية بين الفئات الغنية وبين الفئات الفقيرة، وانعكاس هذه الفجوة في صالة النساء؛ فأحالت الكناية في "القطط السمان"، على نساء الأثرياء. كما أحالت على فئة الفقراء شخصية (حمامة)، التي حاولت مجاراة نساء الفئة العليا فيما يتفاخرن به من أحزمة الذهب في مثل هذه المناسبات، لكن حيلتها انفضحت، حينما سُرق الحزام منها في الصالة، فذهبت تستغيث بحثًا عنه، صارخةً بأنها استعارته من جارتها، وأن فقدانها له سيكون دمارًا محققًا لحياتها.
ألقت الرواية الضوء على صور من كارثية الحرب خارج حيزها السردي الزماني والمكاني؛ فوردت على ألسنة مَنْ في الصالتين حكايات النزوح، وانقطاع الرواتب، وفقدان الوظائف([12]). كما تكشّفتْ أنساقُ الحربِ اليمنية المتقادمة، من مثل الإشارة إلى اجتياح القبائل لمدينة صنعاء في 1948، ومأساة 13 يناير 1986 في جنوب الوطن، وحروب صعدة الستة. مع امتدادٍ إلى أنساقٍ متصلةٍ بواحديةِ الحرب وكارثيتها والتداعي معها في أي مجتمعٍ إنساني، استحضرت بعضًا من ذلك بائعةُ البخور (زينب) الصومالية، في سياقات استغرابها من مبالغة نساء الصالة في الفزع والرعب كلما ارتفعت أصوات القذائف أو اقتربت منهن. مع مقارنتها بين حالي المجتمع النسوي (اليمني/ والصومالي)، وتأكيدها أن نساء بلدها أكثر اعتياديةً وتعايُشًا مع الحرب على اختلاف أشكالها وأزمنتها المتطاولة([13]).
ردودُ فعلٍ متفاوتة
قامت بُنية العمل في سياقاته السردية، على نوعٍ من التفاوت في كثافة الأحداث والمستويات القيمية بين (الرجل/ المرأة) بشكلٍ رجحت فيه كفة النساء. فالمرأة كانت هي الأكثر معاناة لمأساة الحرب فيما ازدحمت به أحوالُها في صالة النساء: حصارًا، واعتراكًا، ومحادثاتٍ بينية اكتنزت أبعاد الصراع وتداعياته المختلفة. بينما لم تكن كفّة الرجال على هذا المستوى، ليس في مدى الضرر الذي يلحق بهم- فهذا أمرٌ مفروغٌ منه؛ لأن كارثية الحرب مجبولة على الشمول الفاتك بالكيان الاجتماعي نساءً ورجالًا- ولكن فيما تجلّى من معاناتهم في سردية الحكاية وأحداثها، في الحيز الروائي الذي حوصروا فيه (صالة الرجال).
استشعرت المرأة ممثّلةً بشخصية العروس (نهلة) مسؤوليتها في وصول المدعوات إلى تلك الحال البائسة، فقد كانت صامتة شاردة تؤنب ضميرها وتجلد ذاتها. بينما لم تظهر هذه المشاعر التأنيبية على الرجل مُمَثَّلًا بشخصية عريسها، الذي لم يكن يشغله سوى عذاب اشتياقه إليها. ويمكن إعادة هذه المفارقة بين موقفيهما إلى ضعف شخصيته أمام شخصيتها المسيطرة؛ فهي مَن أقرّتْ موعدَ العرس ومكانه وتفاصيله ومراسيمه المختلفة؛ مستندةً إلى الفارق بينهما، فهو من أسرة فقيرة، بينما تنتمي هي إلى أسرة رفيعة ذات نفوذٍ ومستوى اجتماعي ومالي عالٍ. وعلى ذلك كانت قد بَنَتْ تخطيطها المسبق لأن تكون هي المسيطرة على حياتها المستقبلية، منذ أن اختارتْه- هو تحديدًا- من بين زملائها في الجامعة.
كما لامست الرواية نسقًا من التفاوت في ردود الفعل لدى كل من الرجل والمرأة، فيما يتعلق بمحاولاتِ تجاوزِ كلٍّ منهما واقعَه المحاصَر، ومغادرة المكان، وعدم الرضوخ للتوجيهات الأمنية القاضية بالبقاء في الصالتين حتى تهدأ شراسة الصراع المحتدم.
أول مبادرة كانت في محاولة العريس تجاوز التوجيهات، والمجازفة في تَحَرُّكِهِ بسيارته راغبًا في الوصول إلى عروسه، لكن سرعان ما انكسر بعد مسافة قصيرة، على يد أفراد نقطة عسكرية أهانوه وأجبروه على العودة من حيث أتى. ولم تظهر من عروسه محاولةٌ مماثلة، كانت مكتفية بالتفكير فيه وفي ضرورة أن يأتي هو لإنقاذها، اتّساقًا مع واقعية سيطرتها عليه، فكان التفاوت هنا لصالح الرجل. لكنه لم يطرد في ردة الفعل العامة والإجراءات التي اتخذها مَن في الصالتين.
اتخذت ردّةُ فِعْلِ الرجال التّدَرُّجَ في مرحلتين، الأولى حينما غادر ثلاثة منهم الصالة، فتعرضوا بعد لحظاتٍ لإطلاق نار، أُصيب أحدُهم، تخلّى عنه صاحباه وعادا إلى صالتهم. المرحلة الثانية، حينما اتخذ عددٌ كبيرٌ منهم قرارَ المغادرة، قادوا سياراتهم موكبًا لا بأس به، رافعين من نوافذها قِطعًا من القماش الأبيض؛ إشعارًا بهويتهم المُسالِمة، لكن كان إمطارُهم بالرصاص بعد مسافة قصيرة كفيلًا بإعادتهم إلى صالتهم.
أمّا ردة فعل النساء، فقد انتظمت في سياق صورتين: فردية، وجماعية. تمثّلتْ ردة الفعل الفردية في مغادرة إحداهن المكان؛ استجابةً منها لما في وجدانها من نداءٍ داخليٍّ، لم تجده سوى صوت رضيعها الجائع الذي تركته في المنزل مع أبيه، وحينما سُمعَ صوتُ طلقاتٍ نارية بعد لحظات من مغادرتها، لم يخالج نساء الصالة شكّ في أنها المستهدَفة، وإنما في أن تكون قد نجت من الموت. تلتْها محاولةٌ مماثلة، في مجازفةِ امرأة أخرى في المغادرة، ارتفع صوتها بعد أمتار من الصالة، بعد إصابتها بطلقة نارية، لم يجرؤ الجنود القريبون من الصالة على الاقتراب منها ومحاولة إسعافها؛ لانكشاف المكان على الجهة المعادية، لكن لم تأبه النساء بهذا الانكشاف، إذ خرجت ستٌّ منهن إليها، حاولْن إسعافها، لكن لم يستطعن، فلم يكن ذلك ممكنًا تلك اللحظة، وبعد دقائق لفظت المصابة أنفاسها الأخيرة. وهنا يتجلى التفاوت لصالح المرأة في المفارقة بين الموقفين المتماثلين: إصابةُ رجلٍ تركهُ صاحباه، وإصابةُ امرأةٍ خاطرت النساء في محاولتهن إنقاذها.
أمّا الصورة الجمعية لردة فعل النساء، فقد تجسّدت في اتخاذهن قرار الخروج بشكلٍ جماعي، رافضاتٍ توجيهات الجنود رفضًا لا رجعة فيه، بعد أن استجبن مرارًا لعباراتهم المكررة: "لم ينتصر أحد، والحرب لم تنتهِ، ممنوع الخروج! قد تتجدد الاشتباكات في أي وقت! ارجعن إلى الصالة حتى تهدأ الأوضاع، ما زالت المنطقة في حالة طوارئ!"([14]). خرجن كتلةً واحدة يرددن شعارًا مناهضًا للحرب: "لا للحرب الملعونة!، لا للعملاء والخونة!"([15])، فلم يكن في مستطاعهم سوى إلقاء التحية على موكبهن، وهو يشق طريقه بمهابةٍ أجبرت كلَّ مَنْ في النقاط العسكرية والمتاريس على تحيته، كُنَّ يغردنَ حول العروس المشرقة بزينتها وثياب عرسها، في حين لم يحظَ عريسُها بموقفٍ مشابهٍ من رجال الصالة.
آلياتُ الكتابةِ والرؤيةُ السردية
تساردت أحداث العمل على لسان الراوي العليم، بلغةٍ عربية فصحى، أحال نسقُ الصياغةِ فيها على نوعٍ من الاستيعابِ الماكن لتفاصيل الحكايةِ، من خلال عددٍ من الخصائص الأسلوبية، في صدارتها التماهي في الثقافة الاجتماعية، بانسيابيةٍ متداعيةٍ مع مشاهد واقعيةٍ مألوفة. مع تطريز فصاحة اللغة بشذراتٍ من المحكية اليمنية، سيما فيما استأنست به آليةُ الكتابة من تقنيةٍ حواريةٍ في مواضع متعددة.
بلغ هذا العمل غايته الفنية، في بناء حبكته السردية نسيجًا مُتَّصِلًا من بدايته حتى نهايته. وقد قام هذا النسيج على حيويةِ التوتر والصراع بين سياقين متناغمين في تجاوُبِ كلِّ واحدٍ منهما مع الآخر. تمثّل السياق الأول في الصراع العسكري والسياسي، بحيثياته المختلفة خارج صالتي المناسبة. وتمثّل السياق الثاني في الصراع السياسي والاجتماعي داخل الصالتين، بتفاصيله المتصاعدة: جدالًا ساخنًا، واعتراكَ مواجهةٍ جسدية مباشرة، وقتلًا مباغتًا؛ إذ كانت هذه التفاصيل تجسيدًا للصراع خارج الحيز المكاني، بحيثياته وعوامله المختلفة، واضطرابه بين التصعيد والصدام المسلح، وبين المهادنات المتقطعة، التي يحاول فيها الوسطاء الوصول إلى تسويةٍ توفِّر على طرفي الصراع والوطن كُلْفة المواجهة.
وصل العمل في نسيجه هذا- القائم على حيوية التناغم بين بؤرتي الصراع، وتفاصيلهما داخل الصالتين وخارجهما- إلى عددٍ من المصائر التي انتهت إليها بعضُ مساراته السردية، منها تَحَرُّرُ النساء وتجاوزهن واقع حصارهن، ومقتلُ المتنكر بزيٍّ نَسَوي (إقبال).
ومن ناحيةٍ أخرى، لم تنتهِ بعضُ المسارات السردية بمصيرٍ حاسم؛ إذ انفتحت على تداعياتٍ خصبة في تأويلها المتناسب مع أنساق الاحتمالات والتوقعات المتعددة، منها: المصير المجهول لرجال الصالة، واستمرارية المعضلة الأخلاقية بعد مقتل (إقبال) فيما سيترتب على انتشارها من خلال ما وَثَّقهُ في هاتفه من تفاصيل صالة النساء، سيما ما يتعلق بصديقته (وديعة)، التي سُعِدت برؤيتها له مقتولًا في طريق موكبهن، لكنها صُعقت بعدما فتشتْهُ ووجدتْ هاتفه مُلْصقًا بفخذه منزوعةٌ منه ذاكرتُه الخارجية.
كما تظهر استمراريةُ هذه المعضلة الأخلاقية، في ضياع هاتف (مجيب المقدام)، بما فيه من صورٍ غير لائقة التقطَها لعروسه (نهلة) في لحظاتٍ حميمةٍ جمعتْهما قبل يوم عرسهما، فكانت هذه المصيبة أشد وطأة عليه وتضاءلت أمامها محنُ الحرب والحصار في الصالتين، مثلما تضاءلت هذه المحن كلها لدى (وديعة) أمام مصيبتها المماثلة. ومثلما تلاشت هذه المصائب لدى (حمامة) أمام مصيبتها في سرقة حزام ذهبها الذي استعارته من جارتها.
وقد تجانست أنساقُ الصراعِ وأنساقُ إشكاليةِ المنحى الأخلاقي، في نهايتيهما الموارِبَتَيْن بين انغلاقِ أنساقٍ وانفتاحِ أخرى في كلٍّ منهما. مع إحالة هذا التجانس على استمرارية المعضلة الأخلاقية، بشكلٍ مُتَّسِقٍ مع استمرارية المعضلة السياسية، واستمرارية عوامل الصراع في مساراتها القادمة، بما فيه من تشابكٍ لمتغيراته المختلفة: سياسية وعسكرية وأخلاقية.
تتبلور من سياقاتِ الصراع المحتدم في هذا العمل، الرؤية السردية القيمية التي تدين الحرب وكارثيتها التدميرية، واستشراء هذه الكارثة في النسيج الاجتماعي، الذي تمزّقه كل طفرة من طفراتها الشرسة. كما انطوت هذه الرؤية على خطابٍ هادف إلى البحث عن الممكن من القواسم الاجتماعية والقيمية المشتركة، التي يمكن التشبُّثُ بها، في وجه الحرب وغاياتها المتقاطعة بتقاطعاتِ مصالح أطرافها.
ختامًا:
إن هذا العمل السردي- بما قام عليه من توظيفٍ لعددٍ من التقنيات والآليات الكتابية، وتجويدٍ للتشبيك بين أنساق الصراع- قد أضفى على سياقاتِ الحكايةِ فيه نوعًا من التشويقِ والانسرابِ المتوالي لأحداثه، في ذائقة المتلقي المأهولة بالقدْرِ الكافي، من مهارة القراءة والاستيعاب للكتابة السردية.
قدّمَتْ سردية العمل صورةً حيّةً لتداعيات الحرب الفاتكة بالحياة اليمنية ونسيجها الاجتماعي، والمدى المأساوي الذي وصلت إليه هذه التداعيات، حدَّ تحويرها لمناسبات الأفراح إلى مناحاتٍ وحزنٍ قاتم، وتحوير الحضور الاجتماعي في أيَّةِ مناسبةٍ إلى تكتُّلاتٍ متصارعة، يسري فيها الصراعُ السياسي والديني، بصوره المختلفة المتجانسة تجانسًا رأسيًّا يربط هرمية الصراع بقواعده.
كما تضمّنت الرؤيةُ السردية المناهضة للحرب نوعًا من الإنصاف السردي للمرأة اليمنية، بوصفها نصف المجتمع الأشد معاناة لكارثية الحرب، والأشجع إقدامًا على محاولات الانتصار للقيم الإنسانية والسلام المجتمعي في وجه آلة الحرب، وجولات الصراع المحكومة بغاياتٍ ليس من بينها ما يعمل على تكاملِ منظومةٍ قيميّةٍ كفيلةٍ بالحفاظِ على النفس البشرية، والحرص على أن يتوافر للإنسانِ في مجتمعه الحدُّ الأدنى من مقومات الحياة الكريمة.